صندوق النقد يكيل بمكيالين: معايير غبّ الطلب -- Nov 10 , 2025 14
قفز ملف الخلاف بين لبنان وصندوق النقد الدولي، في الفترة الأخيرة إلى الواجهة، وبات حديث الصالونات، كما هو حديث مراكز القرار في البلد. وشملت الخلافات نقاطًا عديدة، ترتبط بالتوافق على خطة إنقاذية للخروج من أزمة الانهيار الذي أصاب البلاد منذ نهاية العام 2019.
يدّعي صندوق النقد الدولي أن إصراره على تصفية رساميل وموجودات المصارف، ولو أدّى ذلك إلى إلحاق خسائر فادحة بالمودعين الذين لن يحصلوا على حقوقهم إلّا من خلال ضمان استمرارية القطاع المصرفي، إنما يهدف إلى تطبيق المعايير الدولية المعتمدة في الحلول.ورغم اعتراف صندوق النقد بأن الفجوة المالية موجودة لدى البنك المركزي، إلّا أنه يطبّق في المفاوضات مع الحكومة اللبنانية معايير حلّ الأزمات المصرفية، بدلًا من تطبيق المعايير الدولية المعتمدة في معالجة أزمات وخسائر البنوك المركزية.
وفي هذا الإطار، وعندما تمّ توجيه السؤال، إلى أحد مسؤولي الملف اللبنانيّ في الصندوق، لماذا لا يُصار إلى تطبيق المعايير الدولية المتعلّقة بالبنوك المركزية، كما هو معتمد في العادة، جاء الجواب غامضًا وغير مقنع، يدفع إلى طرح السؤال حول الأهداف الحقيقيّة لهذا النمط من التعاطي.
ولتأكيد المؤكّد، أجرت جهات متابعة بحثًا حول المعايير الدولية التي يوصي بها صندوق النقد لمعالجة خسائر البنوك المركزية حول العالم. وتبيّن وجود أوراق بحثية نشرتها إدارة النظم النقدية والمالية وإدارة الإحصاء في الصندوق، في نيسان 2005، تتضمّن توصيات ومعايير معتمدة.
جاء في الأوراق البحثية التي نشرها صندوق النقد أنه في الظروف العادية، يُفترض أن يكون البنك المركزي قادرًا على العمل بربحية، مع تحقيق مستوى أساسيّ من الأرباح من رسوم سك العملة. ومع ذلك، فقد تكبّدت العديد من البنوك المركزية خسائر نتيجة مجموعة من الأنشطة، بما في ذلك: عمليات السوق المفتوحة؛ وتقييد تدفقات العملات الأجنبية؛ والاستثمارات المحلّية والأجنبيّة، والائتمان، والضمانات؛ والتكاليف المرتبطة بإعادة هيكلة القطاع المالي؛ ودعم أسعار الفائدة المباشر أو الضمني؛ والأنشطة غير الأساسية ذات الطابع المالي أو شبه المالي.
إن عدم معالجة الخسائر المستمرّة، أو أيّ صافي قيمة سلبية ناتج عنها، سيؤثر سلبًا على الإدارة النقديّة، وقد يُعرّض استقلال البنك المركزي ومصداقيته للخطر.
مسؤولية الدولة في الرسملة
تقتضي معايير الشفافية والمحاسبة تسجيل الخسائر الصافية في بيان الدخل، وخصمها من رأس المال. ولا ينبغي عرض الخسائر الصافية في الميزانية العمومية كأصول إلّا إذا غطتها الحكومة رسميًا.
وعندما تؤدّي خسائر البنك المركزي إلى صافي قيمة سالبة، فإن الممارسة التي يوصي بها صندوق النقد الدولي هي أن تعيد الحكومة رسملة البنك عن طريق ضخ أموال نقدية أو أوراق مالية حكومية، من خلال تخصيصات مالية شفافة في الميزانية.
أسباب خسائر البنوك المركزية
عكست خسائر البنوك المركزية التي سجّلتها دول في أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي عوامل عديدة، منها خسائر التشغيل والتقييم، والدعم المالي. وفي كثير من الحالات، تكبّدت البنوك المركزية خسائر مرتبطة بأنشطة تتجاوز بكثير الوظائف التقليدية للبنوك المركزية. وشملت الأسباب المحدّدة: تحويل ديون الحكومة أو القطاع الخاص إلى البنك المركزي بسعر صرف مرتفع؛ والاستحواذ على أصول متعثرة من خلال أنشطة البنوك الإنمائية أو من مؤسّسات مالية متعثرة؛ وانخفاض قيمة العملة المحلية عندما تتجاوز الالتزامات الأجنبية الأصول الأجنبية؛ والخسائر في الأوراق المالية المحلية أو العملات الأجنبية في محفظة البنك؛ والتسعير غير السليم للالتزامات الطارئة مثل ضمانات الصرف الأجنبي؛ ودعم أسعار الفائدة على القروض المقدمة للقطاعات أو المؤسسات أو الأفراد المفضلين؛ والدعم المالي للمصدرين؛ وتحمل مخاطر الصرف في إعادة إقراض الأموال المقترضة من الخارج؛ معاملات الصرف الأجنبي بأسعار مدعومة غير سوقية؛ والنفقات التشغيلية المرتبطة بعمليات السوق المفتوحة؛ والنفقات الإدارية غير المنضبطة والتحويلات من قِبَل البنك المركزي.
في كثير من الحالات، أصبحت الخسائر المتراكمة كبيرة جدًا قبل معالجتها، ومثلت نسبة كبيرة من الناتج المحلّي الإجمالي.
خلاصات وتوصيات
من الدروس المهمّة المُستفادة من هذه التجارب:
- ينبغي تجنب إثقال كاهل البنك المركزي بمهام تتجاوز مسؤوليات السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف؛
- ينبغي أن تتحمّل الحكومة مسؤولية الخسائر شبه المالية للبنك المركزي؛
- وجوب حلّ الخسائر المتراكمة؛
- يجب اتخاذ خطوات لإزالة احتمال التعرّض لخسائر مستقبلية أو الحدّ منه.
يتطلّب ذلك اتخاذ إجراءات لمعالجة أسباب الخسائر، وكذلك إعادة تمويل البنك المركزي، غالبًا من خلال إضفاء الطابع الرسمي على مطالبات البنك المركزي على الحكومة وتحويل هذه المطالبات إلى أدوات دين ذات عائد مناسب.
عوامل ذات صلة
قدّمت البنوك المركزية في العديد من البلدان تمويلًا وائتمانًا يتجاوز النطاق المعتاد للتسهيلات القصيرة الأجل المضمونة التي تقدّمها البنوك المركزية. يمكن أن تشمل هذه التسهيلات الممتدة تمويل البنك المركزي المرتبط بتقديم الدعم المالي خلال الأزمات، أو خطط ضمان الودائع الضمنية أو الصريحة، أو ترتيبات إعادة هيكلة البنوك. وقد تشمل أيضًا التمويل المقدّم لكيانات خارج نطاق المؤسسات المالية التي تُعتبر عادةً متلقية لتسهيلات البنك المركزي الائتمانية.
يمكن أن يحدث هذا، على سبيل المثال، عندما يقوم البنك المركزي بعمليات ائتمان تجارية أو موجّهة تشمل مؤسسات عامة أو خاصة، أو عندما يقدّم البنك المركزي ضمانات لدعم اقتراض كيانات أخرى.
تُعرّض ترتيبات الائتمان الممتدّة، البنوكَ المركزية، لمجموعة أوسع من المخاطر التجارية، بما في ذلك خطر التخلّف عن السداد أو عدم كفاية الضمانات، مقارنةً بتلك الموجودة عادةً في محافظ البنك المركزي. عند حدوث مثل هذه العمليات، يجب على البنوك المركزية تقييم مدى ضعف المطالبات على المدينين بعناية، ووضع مخصّصات كافية لخسائر القروض لتغطية الخسائر المحتملة بالطريقة نفسها التي تتبعها أي مؤسسة تجارية تقوم بعمليات مماثلة. قد تُسهم تكاليف إعادة هيكلة البنوك في خسائر البنك المركزي بطرق عدة: من شطب القروض المُقدّمة للبنوك والتي تُصفى لاحقًا؛ ومن خسارة الفوائد عند تحويل القروض المُقدمة للبنوك إلى جهة أخرى بقيمتها الأصلية فقط، أي باستثناء أي فوائد مستحقة؛ ومن الاستحواذ على أصول منخفضة الدخل - بما في ذلك نقل البنوك المُفلسة إلى البنك المركزي وشراء البنك المركزي سندات حكومية طويلة الأجل منخفضة الفائدة؛ أو نتيجةً لتكاليف تشغيل إضافية يتحمّلها البنك المركزي في تنفيذ أو إدارة خطة إعادة الهيكلة. وستكون لتحقيق الضمانات المُقدمة للبنوك الضعيفة آثار مماثلة.
الاعتراف بالخسائر
من الضروري أن تنعكس أي خسائر في الحسابات المالية بمجرّد اكتشافها. ينطبق هذا المبدأ على البنوك المركزية كما ينطبق على أيّ مؤسسة.
تشترط معايير المحاسبة الاعتراف أولًا بجميع الخسائر الناتجة عن العمليات، أو عن انخفاض قيم الأصول إلى ما دون تكلفتها التاريخية، في بيان الدخل. لدعم ذلك، على سبيل المثال، لا يسمح إطار المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية بالاعتراف بالخسائر أو تراكمها كأصول في الميزانية العمومية، لأن هذه الخسائر لا تستوفي معايير الاعتراف بأصول الميزانية العمومية. بمجرّد تسجيل الخسارة في بيان الدخل، يجب خصمها من رأس المال والاحتياطيات.
يتجلّى تطبيق هذه المبادئ العامة على البنوك المركزية في بعض الحالات، على سبيل المثال، حيث تمّ خصم الخسائر من رأس المال والاحتياطيات، أو حيث غطّت الحكومة الخسائر بنفقات من الميزانية أو من خلال إصدار أوراق مالية للبنك المركزي. لا يُمكن الاعتراف بأصل البنك المركزي المقابل إلّا عندما تُقرّ الحكومة فعليًا بتغطيتها الخسائر من خلال إصدار أوراق مالية (وهو ما يُعادل إعادة الرسملة)، أو عندما ينصّ قانون البنك المركزي على الإصدار "التلقائي" لهذه الأوراق المالية.
وعندما تُسفر الخسائر عن صافي قيمة سلبية للبنك المركزي، فإن الممارسة التي يوصي بها صندوق النقد الدولي هي تغطية الخسائر بإصدار أوراق مالية حكومية تحمل فوائد بأسعار السوق.
في الخلاصة، يتبيّن أن المعايير الدولية التي يوصي بها صندوق النقد في معالجة خسائر البنوك المركزية، لا تشبه في شيء المعايير التي يتحدث عنها في الحالة اللبنانية، حيث يبدو أن هدفه الوحيد هو عدم تحميل الدولة أية أثقال مالية، ولو تمّ ذلك على حساب المودعين والقطاع المصرفي والاقتصاد الوطني بشكل عام.